قراءة سيميائية في العتبة النصية -رواية حائط المبكى لعز الدين جلاوحي أنموذجا-

قراءة سيميائية في العتبة النصية 

-رواية حائط المبكى لعز الدين جلاوحي أنموذجا-


سيميائية العنوان و الغلاف:

حظيت الرواية في محيط الإبداع العربي بمكانة خاصة من خلال تلك التّحولات التي عانقتها منذ ظهورها إلى يومنا هذا، نجدها فرضت وجودها مقارنة بالأنواع الأدبية الأخرى، فاستقطبت بذلك اهتمام العديد من المبدعين، واستُأثرت اهتمام القرّاء والنقاد الذي كان لهم دور بارز في تطوّرها سواء على مستوى الشكل أو المضمون، ليصبح هذا النوع الأدبي المتميّز في الآونة الأخيرة مادة خصبة تتيح للكتابة السردية الانفتاح على الإبداع بل تفعيل آليات حداثية عن طريق دخولها مجال التجريب، فهي العالم السّحري الذي تتمازج فيه قوة اللغة و فرادة التّعبير، ليعطي لها بذلك حيزّا لخلق الجمال وطرح الخيال.

من هذا المنطلق نجد أن الرواية كنص سردي تتفاعل ضمنه الرؤى المختلفة وتتمازج في ظلّه تشكيلات فنية وفق تقنيات خاصة تُفضِي إلى الخصوصية على مستوى النص، وهذا وفق صياغة مدروسة تحقق ذلك التلاحم بين تفاصيلها ،فيظهر ذلك التجلي بين سطور مسارها السردي أين تكون لحركات الشخوص دور فعّال في انبثاق الدلالات الرمزية للنفس الإبداعي من منطلق أنها عنصر فقال في نشاط النص، بل مجموعة مدلولات تكتسب فاعليتها داخل المتن الروائي.
وبهذا نجد أن رواية" حائط المبكى للكاتب عز الدّين جلاوجي " تندرج ضمن النصوص السردية المعاصرة، التي استطاع صاحبها أن يلج إلى الجديد والمغاير،بل قدّم متنا مفعما بروح التّحرر من كل قديم، عانق فيه التجريب من خلال الحركات السردية التي تجعل المتلقي يعايش النص وهو خارجة يتفاعل مع مجرياته بل ينفتح على تجليات الذات التي صبغها بالقلق من خلال تلك التناسجات التي صنعها بدءا من العنوان وصولا إلى نهاية النص.

تبدأ تشكيلة هذا المتن السردي بالعنوان هذا الأخير الذي يعدّ عتبة أولى للولوج إلى عوالمه بل دليلا نصيّا لعبور متاهاته والتعايش مع التجليات الإبداعية فيه، فله دور رئيسي في الوقوف بدءا عند الإشارات الدلالية وهذا من منطلق أنه «علامات سيموطيقية تقوم بوظيفة الاحتواء لمدلول النص»1.
حيث أن النص السردي "حائط المبكى" قدّم لنا عنوانا ذو تركيبة فعالة في «إثارة شهية القراءة ،إذ أنه قام على تجسيد شعرية النّص وتكثيفها»2.
فالوقوف عنده يُعطي نفسا أوسع للدخول إلى النص واستنطاقه وتفكيك تلك الدّلالات وإعادة تركيب تأويلات أخرى، فهو «مفتاح تقني يجسّ به السّيميولوجي نبض النص و يقيس به تجاعيده، ويستكشف ترسباته البنيوية وتضاريسه التركيبة على المستويين الدلالي والرمزي»3.
من هذا المنطلق نجد أن العنوان أخذ المركزية في واجهة الرواية مثبتا بذلك حضوره مشبعا بتسمية بارزة، دون أن ينافسه في ذلك عنوان فرعي ، فهو يجعلك للوهلة الأولى تعيش مع تلك الرمزية والإيحائية من خلال ذلك التضمين الذي يحمله كل حرف فيه، لنجد تلك اللوحة متموضعة أسفله وهنا يكون للعلامات غير اللغوية حضورها و ترميزها في استمالة حسّ القارئ وجذبه لخوض مغامرة هذا النص السردي و استقراء كل جزء جمالي فيه.
فإذا قلنا العنوان فإننا نقف عند تركيبة استطاعت أن «تسمي النصوص والخطابات الإبداعية، وتعينها وتخلق أجواءها النصية و التناصية عبر سياقها الداخلي والخارجي»4، بل نجده صورة رمزية يتمازج فيها ذلك البعد المرجعي مع بعد إيحائي ترميزي، من خلال تناسج تلك الخيوط الدلالية الرمزية، فنجد أنفسنا بدءا مع تلك المراوغة التي صنعتها حروف الإبداع فندخل متاهات تلك العلامات بين معانقة مطلق المعنى وبين القفز إلى لغة الإشارة.

جاء العنوان "حائط المبكى "جملة اسمية حذف خبرها، فالاسمية هنا للدلالة على الثبات لذلك الحسّ واستمراره في مواجهة موج الحياة والتعايش مع رماد الرّوح الذي خلّفته أنفاس الألم، بل الوقوف باكيا عند وهج روح رحلت لتعانق تلك الارتقاءات والرّحلات في الكشف عن تحرر من عقال سيطرة الواقع المؤلم وفضاءه البائس، ليترك أنفاس الأمل مربوطة في حائط القدر آخذا لنفسه طريقا نحو التّطهر من كل أشواك الحياة والتّخلص من آلامها.

وإذا جئنا إلى جزئياته (حائط /المبكى) نجده قد تألّف من وِحدتين حققتا ذلك الانسجام الرائع و الاتساق بعد ذلك لهيكلية النص، فالحائط هنا ذلك الشيء الفاصل بين جزأين، بين شيئين لتحقيق الخصوصية، بل كل حرف فيه يُنبئ عن نفس صوتي خاص بين الهمس (الحاء) والشدّة (الألف، الطّاء)، والجهر (الهمزة) والاستعلاء والإطباق (الطاء) هذا النفس الذي أباح عن همسات الألم وشدّته، بل استعلائه وإطباقه على روح أرادت أن تعايش الهدوء، لتنفتح على الألم والقلق واليأس في مواجهة القدر بين ارتطام في حائط صنعه الخيال و واقع اضطرّت لمعايشة تفاصيله.
فهذه اللفظة وما تحمله من دلالات جاءت معانقة للفظة (المبكى) هذه الأخيرة التي جاءت مقصورة للدلالة على الألم واليأس، حيث أن المراد هنا هو «الدّموع وخروجها...قال الخليل من قصّره ذهب به إلى معنى الحزن»5، حتى أن صوت حروفها تمازج مع النسبية والانحراف (اللام)،الذلاقة(الميم-الياء) والشدة (الباء) ،ليعرف الليّن آخرا (الياء) ،فهو ذلك المكان الذي يتشابك والبكاء، بل يعانق حسّ أنفاسه، والتعريف هنا للتخصيص والتعيين وإسقاط الدّهشة في الإحالة على استجلاب أنفاس الحسّ وحالات الرّوح في معايشة ذلك الألم الذي نسجت خيوطه في أخيلة الذات القلقة، لنخرج إلى أن هاتين اللفظتين مجتمعتين أحالتا على رمزية ذلك الصراع الدّائم مع الذات التي عانقت حالات اليأس وتمازجت مع حائط الألم في مسافات من الثبوت الفعلي لحدث القلق واستمراره، حتى أنّ اختيار اللون البرتقالي الذي تتمازج فيه القوة بنوع من الانتباه بل القدرة الذهنية في استجلاب حالات الثبوت في مواجهة انجذاب القلق والصراع الدائم في الإنعتاق من قبضاته، فهو اللون الذي «يرمز للدفء والانجذاب...» 6.
حيث أن التّمازج فيه بين اللون الأصفر والأحمر يجعلك تعيش جوّا يتناسج فيه ذلك« الذبول والنور مع الحركة»7 .
أما عن الحذف الذي جاء ليُضفي جمالية بل أدّى إلى تحقق الأثر الذي ربما بحضور المذكور يكون غائبا، فاستحضرت بذلك القيم الفنية وأفصح عن النفس الدّلالي، فالحذف هنا عَدَل عن المستوى السطحي إلى العميق فشحن العنوان برمزية عالية بل ساهم في لفت انتباه القارئ وتحريك فطنته، فهذا الحائط مفتوح على دلالات عدّة لها علاقات مختلفة مع الذات القلقة داخل المتن الروائي التي عرفت تواترات عدّة ونقلات كثيرة بين الواقع الفعلي وبين تخيلات صنعتها خيوط الحسّ وآلامه.
فقد كان اختياره موفقا من قبل الكاتب عز الدين جلاوجي الذي عمد إلى استحضار رمز ديني من أجل طرح مُعطى حداثي من خلال تلك الأبعاد الرمزية التي خلقت مسافات من الدّهشة بل كسر أفق القارئ عندما واجه النص، فالعنوان بدءا يحيلنا إلى ذلك الحائط الذي يعدّ رمزا خاصا لدى اليهود فهم يتباكون عنده ويمارسون طقوسهم المعتادة، إلاّ أن الكاتب أفرغ هذه التركيبة من محتواها ليحمّلها معنى يتناسج والرمزية في علاقات دلالية بين أجزاء النص الأخرى فقوله "حائط المبكى" جعلنا نقف عند ذلك المتخيل أين تلعب الرمزية دورا في معانقة مستقبل مشرق، فتكون الذات فيه بؤرة للتخلص من كسور الحياة وجبروت القدر،فانزياحه بهذه التّسمية وعدم اختياره لتسمية "حائط البراق" أين نجد رمزا لذلك الصّوفي الذي يبحث عن تلك الارتقاءات نحو عالم الطّهر بل رؤية النور والتخلص من ظلام الألم وفُتات اليأس، يجعلنا نقول أنّه عمد إلى الوقوف عند هذه الإشارات وهذه الرمزية لمعايشة حالات الذات بين هروب من واقع للتنا سج والانكماش مع حائط صنعته أحرف الخيال فوضعت بين واقع معاش ومستقبل مفتوح على التحرر.
وهنا نقول أن العنوان مثّل المعرفة الأولى للنص من خلال تلك المركزية في الإحالة على دلالات و تناصّات، فهو ذلك« الدال الاشاري يوحي إلى قصدية الباث وأهدافه الإيديولوجية والفنية، وتوضيح لما غمض من إشارات في النص، فهو ومضة أو مفتاح يتيح للمستقبل فك شفرات النص بعده النواة التي قام عليها النص »8 .

أما إذا جئنا عند تلك اللوحة التي اختيرت لتكون جزءا من واجهة الرّواية قد اشتغلت على لعبة الألوان وتمازجها حاملة الإشارات و إحالات رمزية لتعبّر عن حالة الشخصية القلقة المتشظية في الروّاية، نجد أن الإطار الذي اختير لها مربعا وهذا لخلق الثبات في مواجهة الألم من خلال تساوي أضلعه وهنا دلالة على الاستقرار من جهة التعايش مع القلق والانكسار الذي عانته الشخصية في مواجهة نفسها المتوترة المنكمشة وفي مواجهة واقع سلّط عليها التّشتت والألم والحزن.

انفتحت اللوحة على استحضار عصفورين يلاحظ مدى ذلك الانسجام القائم بينهما إلا أنّ الانفصال في خلق جدار شفاف يدل على تلك القطيعة والشكوك بينهما فهو ذلك الفنان الذي يعيش ضمن مَبكاه باحثا عن من يحبّها بصدق جاعلا القتل هو رسالات حبه الضائع، وهنا نلحظ استحضار اللون الأخضر الذي يرمز للهدوء والحياة والأمل بل يعطي مساحة للبحث عن التوازن ليخالطه الأصفر الدّال على الغيرة لتكون بالموازاة مع حلم الحبّ، لكننا نلحظ أنّ الأسود قد طغى كثيرا مستوليا على مساحة كبيرة من اللوحة بل آخذا من تفاصيل صورة العصفور التائه، وهنا دلالة على سواد القلب وانكساره وحزنه بل قساوة الواقع، وهناك تكون العدمية والكآبة والحزن ملازمة لحالات الشخصية فتواجه بذلك الظلام الروحي والقلق الدّائم، ولعل اللوحة التي بين أيدينا والتي كانت من وضع دار المنتهى كما أشار إلي الأديب عز الدين جلا وجي تدلّ على ذلك الترابط والتناغم بين ما هو موجود ضمن المتن الروائي الذي عبّر عن حالات القلق و التّشظي التي تعيشها الشخصية وهي ما تحويه ثنائية الصورة "الفنان /المرأة المعشوقة"، وضمن هذه التداعيات وتلك تستقرى الرواية بأبعاد مختلفة وبتأويلات متعددة.

_____________

قائمة المراجع :
1- محمد صابر عبيد و سوسن البياتي ، جماليات التشكيل الروائي، في الملحمة الروائية"مدارات الشرق"، جدار للكتاب العالمي، الأردن، ط1، 2012م، ص 25.
2- المرجع نفسه، ص 26.
3- جميل حمداوي، سيموطيقا العنوان، المغرب، ط1، 2015م، مطبوع عن الحاسوب ، ص 9.
4- محمد صابر عبيد و آخرون ، جماليات التشكيل الروائي،ص22
5- ابن منظور ،لسان العرب ،مج1،ج3،باب الباء ،ص337
6- قدور عبد اللّه ثاني، سيميائية الصورة، ،مغامرة سيميائية في أشهر الإرساليات البصرية في العالم،ص 113.
7- المرجع نفسه، ص 113.
8- ضياء غني لفته وعواد كاظم لفته، سردية النص الأدبي، دار الحامد للنشر والتوزيع، عمان- الأردن، د.ط، 2010م، ص 110.

___________

| إعداد : سعيداني نهاد، من الجزائر


تعليقات