كانت ليلة شتوية بامتياز .. الرياح تصارع كل ما يعترض طريقها فتركله بعيدا أما الرعد فقد استشاط غضبا وراح يستنفذ طاقة حباله الصوتية مدويا في الأرجاء ليرافقه صديقه الذي لا يكاد يفارقه : برق يمزق ظلام الليل الحالك بأنيابه الحادة لتحل مكانه أضواء آنية الوجود .
كان الشيخ محمد الذي أقعد على كرسيه منذ عقد مستسلما لأنامل ابنه جارا إياه إلى وجهة غير معلومة أو بالأحرى كان يظنها ولده كذلك ، لأن محمد الذي هانت الدنيا في عينيه كان يعرف يقينا لا بل جزما وجهته التي سيؤخذ إليها .
طالت الطريق عليه وبات يسترجع شريط حياته .. ثمانون حولا لم تشفع له دقيقة من بينها لينال خاتمة في بيته مع ابنه ووسط أحفاده ، سنين عدة حمله فيها على أكتافه ، بين يديه وحتى على رموش عينيه ، لكن ابنه الآن يجره كأنه آلة جامدة لا حس لها و لا شعور و لماذا يعامله كإنسي إن كان قد قال بأم شفتيه " ليس لي في أب مقعد معدم المدخول " ، كان يراه كومة من الأوراق النقدية تسير في كرسي متحرك يعبث بها كيفما شاء و يرميها بعيدا وقتما أراد .
- لقد وصلنا ، قال ابنه ولم ينظر إليه حتى ، ابق هنا سيخرج أحدهم ليستلمك . ثم أدار ظهره و راح ذاهبا .
أسدل الضباب غطاءه على عيون الشيخ محمد وظن نفسه لوهلة سلعة توصل فتستلم . لم يعد قادرا على الرؤية فتزايدت نبضات قلبه و ضاق نفسه . أحنى رأسه ، الذي رسمت فيه الأيام تضاريسها الخاصة و علمت فيه ممتلكاتها بكل قسوة ، على مقبض الكرسي عله يجد شيئا من الأكسجين الإضافي لكنه فشل ، فكل شبر في جسده أمسى كجحر للنمل حق الدبيب فيه .
مرت ساعة و ساعتان .. ولم يخرج أحد ، كانت رعشة الشيخ محمد من شدة البرد غير عادية إذ يتحرك كل بدنه في آن واحد ثم يتوقف مدة معينة .
في الطرف المقابل من الطريق كان خالد الشاب الذي يعمل في دار العجزة يمشي ليزاول عمله حتى رأى الشيخ في حالته التي تفيض لها العيون دما ، فهم إليه جاريا ثم قال :
- عماه ‼ ماذا تفعل هنا ؟ لماذا تركوك على قارعة الطريق ؟ لم يجب محمد على أسئلة خالد التي وقعت عليه كرميات من السهام تخترق جسده و كان يردد فقط : - دفئ ‼ دفئ ‼ ...
جر الشاب الكرسي المتحرك مسرعا و أدخله إلى الدار متوجها نحو العيادة و الشكوك تنخر عقله حول هذا الشيخ الذي بدا له هالة من الغموض .
حل الفجر و إذ بعيني الشيخ محمد تنفتح شيئا فشيئا ، كان يحس جسده تماما كعلكة أزهقت روحها مضغا مرمية بعبثية على الأرض لا أفادت صاحبها ولا المكان المرمية فيه ، أدار رأسه ببطء فرأى الجدران البيضاء للعيادة ثم تلفت للجهة الأخرى ليجد الشاب الذي أدخله بالأمس .
- صباح الخير عمي محمد ، زال البأس إن شاء الله ، لكن أرجوك أن تخبرني من أتى بك إلى هنا لأنني وجدت كل أوراقك في درج كرسيك ؟
- ابني ، رد الشيخ إنسان و قد امتلأت عيناه بالدموع ، لقد تركني هنا لأنه لا يحتاجني ، قد صرت حملا ثقيلا على كاهله .
تورمت جفون الشيخ من حرارة الدموع و ملوحتها فقد شقت طريقها إلى خده دون استئذان ، أما خالد فآلمته روحه مما سمعه ، فكيف لابن أن يرمي والده وحيدا يصارع صقيع الليل أمام دار العجزة ؟ في حين أن غيره تجرع مرارة اليتم و الوحدة و عانى سنوات لذلك و هو ينسى بكل هذه السهولة ؟
- أنت أمانة في رقبتي يا عماه ، سأعينك إن شاء الله فأنا يتيم مات كل من أبي و أمي في حادث وأنا في عمر الثالثة ، لا تقلق ، لأن الصياد إن ألقى اللؤلؤة مخافة و تفاديا للتعب فسيأتي حتما آخر ينظفها و يمنحها القيمة التي تستحق .
- أنار الله دربك يا بني ووفقك لما يحبه و يرضاه ، لكن لي عندك طلب صغير ، أنا سأكمل ما تبقى لي من أيام معدودة هنا معكم ، و لكن إن حصل و صعدت الروح إلى بارئها وجاء ابني بغرض الدفن فلا تتركوه لا يراني و لا يدفنني ، رجائي منك أن تحقق لي هذا الطلب .
تنهد خالد تنهيدة من أعماق قلبه و قال : " حسنا ، مثلما تأمر . " ...
مرت سنة كاملة ولم يأتي ابن الشيخ محمد ليسأل عنه ، أما هو فاستأنس بوجود خالد وبقية الشيوخ لكن غصة قلبه لازالت على حالها ، فهو يبكي كل ليلة تربيته و شقاءه ويرثي أيامه الخوالي أيام كانت قدماه تحملانه و ولده ينتظر الدخل كل شهر .
كان يحس ذاك اليوم بدنو أجله ، وما إن غربت الشمس حتى أحس بألم حاد يسار صدره فطلب من خالد أن يأخذه إلى العيادة وفي طريقه إليها أمسك يده وقال : " لا تنسى الوصية يا بني ، فالوقت قد حان ‼ "
تعرض الشيخ لأزمة قلبية حادة عجز الأطباء عن إنقاذه منها فتوفي في منتصف تلك الليلة و انتقلت روحه إلى جوار ربها الرحيم . بكى جميع من كان في القاعة أما خالد فهوى أرضا يرجو و يتمنى لو كان هذا اليوم كابوسا مزعجا سيستيقظ منه .
أبلغت الإدارة ابن الشيخ محمد بالخبر فجاء يستعرض أمواله و سياراته طالبا جثة أبيه لكن خالد منعه من ذلك تماما كما أمره المرحوم قبل وفاته و قال له :
- الآن ؟ تظهر فتأتي و تبحث عن والدك الذي أصبح جثة هامدة ، بعد سنة كاملة ؟ اعلم أنك لن ترى التوفيق في حياتك قط ستلحقك لعنة الصقيع الذي تركت فيه والدك ذات ليلة .. ستلحقك .
كان الشيخ محمد الذي أقعد على كرسيه منذ عقد مستسلما لأنامل ابنه جارا إياه إلى وجهة غير معلومة أو بالأحرى كان يظنها ولده كذلك ، لأن محمد الذي هانت الدنيا في عينيه كان يعرف يقينا لا بل جزما وجهته التي سيؤخذ إليها .
طالت الطريق عليه وبات يسترجع شريط حياته .. ثمانون حولا لم تشفع له دقيقة من بينها لينال خاتمة في بيته مع ابنه ووسط أحفاده ، سنين عدة حمله فيها على أكتافه ، بين يديه وحتى على رموش عينيه ، لكن ابنه الآن يجره كأنه آلة جامدة لا حس لها و لا شعور و لماذا يعامله كإنسي إن كان قد قال بأم شفتيه " ليس لي في أب مقعد معدم المدخول " ، كان يراه كومة من الأوراق النقدية تسير في كرسي متحرك يعبث بها كيفما شاء و يرميها بعيدا وقتما أراد .
- لقد وصلنا ، قال ابنه ولم ينظر إليه حتى ، ابق هنا سيخرج أحدهم ليستلمك . ثم أدار ظهره و راح ذاهبا .
أسدل الضباب غطاءه على عيون الشيخ محمد وظن نفسه لوهلة سلعة توصل فتستلم . لم يعد قادرا على الرؤية فتزايدت نبضات قلبه و ضاق نفسه . أحنى رأسه ، الذي رسمت فيه الأيام تضاريسها الخاصة و علمت فيه ممتلكاتها بكل قسوة ، على مقبض الكرسي عله يجد شيئا من الأكسجين الإضافي لكنه فشل ، فكل شبر في جسده أمسى كجحر للنمل حق الدبيب فيه .
مرت ساعة و ساعتان .. ولم يخرج أحد ، كانت رعشة الشيخ محمد من شدة البرد غير عادية إذ يتحرك كل بدنه في آن واحد ثم يتوقف مدة معينة .
في الطرف المقابل من الطريق كان خالد الشاب الذي يعمل في دار العجزة يمشي ليزاول عمله حتى رأى الشيخ في حالته التي تفيض لها العيون دما ، فهم إليه جاريا ثم قال :
- عماه ‼ ماذا تفعل هنا ؟ لماذا تركوك على قارعة الطريق ؟ لم يجب محمد على أسئلة خالد التي وقعت عليه كرميات من السهام تخترق جسده و كان يردد فقط : - دفئ ‼ دفئ ‼ ...
جر الشاب الكرسي المتحرك مسرعا و أدخله إلى الدار متوجها نحو العيادة و الشكوك تنخر عقله حول هذا الشيخ الذي بدا له هالة من الغموض .
حل الفجر و إذ بعيني الشيخ محمد تنفتح شيئا فشيئا ، كان يحس جسده تماما كعلكة أزهقت روحها مضغا مرمية بعبثية على الأرض لا أفادت صاحبها ولا المكان المرمية فيه ، أدار رأسه ببطء فرأى الجدران البيضاء للعيادة ثم تلفت للجهة الأخرى ليجد الشاب الذي أدخله بالأمس .
- صباح الخير عمي محمد ، زال البأس إن شاء الله ، لكن أرجوك أن تخبرني من أتى بك إلى هنا لأنني وجدت كل أوراقك في درج كرسيك ؟
- ابني ، رد الشيخ إنسان و قد امتلأت عيناه بالدموع ، لقد تركني هنا لأنه لا يحتاجني ، قد صرت حملا ثقيلا على كاهله .
تورمت جفون الشيخ من حرارة الدموع و ملوحتها فقد شقت طريقها إلى خده دون استئذان ، أما خالد فآلمته روحه مما سمعه ، فكيف لابن أن يرمي والده وحيدا يصارع صقيع الليل أمام دار العجزة ؟ في حين أن غيره تجرع مرارة اليتم و الوحدة و عانى سنوات لذلك و هو ينسى بكل هذه السهولة ؟
- أنت أمانة في رقبتي يا عماه ، سأعينك إن شاء الله فأنا يتيم مات كل من أبي و أمي في حادث وأنا في عمر الثالثة ، لا تقلق ، لأن الصياد إن ألقى اللؤلؤة مخافة و تفاديا للتعب فسيأتي حتما آخر ينظفها و يمنحها القيمة التي تستحق .
- أنار الله دربك يا بني ووفقك لما يحبه و يرضاه ، لكن لي عندك طلب صغير ، أنا سأكمل ما تبقى لي من أيام معدودة هنا معكم ، و لكن إن حصل و صعدت الروح إلى بارئها وجاء ابني بغرض الدفن فلا تتركوه لا يراني و لا يدفنني ، رجائي منك أن تحقق لي هذا الطلب .
تنهد خالد تنهيدة من أعماق قلبه و قال : " حسنا ، مثلما تأمر . " ...
مرت سنة كاملة ولم يأتي ابن الشيخ محمد ليسأل عنه ، أما هو فاستأنس بوجود خالد وبقية الشيوخ لكن غصة قلبه لازالت على حالها ، فهو يبكي كل ليلة تربيته و شقاءه ويرثي أيامه الخوالي أيام كانت قدماه تحملانه و ولده ينتظر الدخل كل شهر .
كان يحس ذاك اليوم بدنو أجله ، وما إن غربت الشمس حتى أحس بألم حاد يسار صدره فطلب من خالد أن يأخذه إلى العيادة وفي طريقه إليها أمسك يده وقال : " لا تنسى الوصية يا بني ، فالوقت قد حان ‼ "
تعرض الشيخ لأزمة قلبية حادة عجز الأطباء عن إنقاذه منها فتوفي في منتصف تلك الليلة و انتقلت روحه إلى جوار ربها الرحيم . بكى جميع من كان في القاعة أما خالد فهوى أرضا يرجو و يتمنى لو كان هذا اليوم كابوسا مزعجا سيستيقظ منه .
أبلغت الإدارة ابن الشيخ محمد بالخبر فجاء يستعرض أمواله و سياراته طالبا جثة أبيه لكن خالد منعه من ذلك تماما كما أمره المرحوم قبل وفاته و قال له :
- الآن ؟ تظهر فتأتي و تبحث عن والدك الذي أصبح جثة هامدة ، بعد سنة كاملة ؟ اعلم أنك لن ترى التوفيق في حياتك قط ستلحقك لعنة الصقيع الذي تركت فيه والدك ذات ليلة .. ستلحقك .