خطت بعض سطور بحبر جاف حتى لا تذوب الكلمات من تلك الدموع المنسكبة على قرطاسها..
كتبت بأعلى الصفحة بعد البسملة (برقية إلى الغائب الحاضر)
المرسل إليه: روح فارقتني وأبقت بي الأنفاس
عنوان المرسل إليه: حي الرموس
منزلك لم يتغير.. فالأبواب كما هي إلا أنها تاقت إلى التفتح والأضياف، قد تلف زر جرس الباب من عبث الصبية بالشارع، فلا سعال يخيفهم ولا جلسة وقورة على مصطبة الدار يحترمونها، الجدران كما هي والأسقف لم يصبها أي ضرر، حتى أشجار بستاننا تثمر بعد ذرف الندى على اهتمام ضعيف بعد رحيلك..
لم يتغير شيء إلا تلك الوجوه التي أسقطت الأقنعة، فبربك كيف كنت تجبر أصحابها على ارتدائها؟؟!!
لقد سئمت فك طلاسم الوجوه من حولي، ولن أعبأ بثمن البرقية مهما كلفت بالمال وأنا ألح عليك بالسؤال..
علمني القراءة أو زرني ولو في منام خاطف لأخبرك بما أقاسيه من لوعة الفراق..
أنتظرك أيها القريب البعيد...
المرسل: جسد يحتضر
عنوان المرسل: دنيا الزوال
طبقت برقيتها ذات الإطناب البيّن وانطلقت نحو المقابر حيث يوجد الجثمان..
قرأت ما استطاعت من آيات بعد بكاءٍ مرير قاومته بأعجوبة، ثم دفنت الورقة على سطح الرمس المقصود..
لاحظها أحد زائري المقابر، وكان صديقا لأحد أقاربها.. أخرج هاتفه واتصل بصديقه يلومه على فعلة قريبته، فالرمس مهجور لم يدفن فيه أحد منذ سبعٍ عجاف.. كيف لعائلة كريمةٍ ذات شأنٍ بالقرية العريقة أن تصنع ابنتها مثل هذا الصنيع؟!
تجمع الأهل في لحظات معدودة وأحاطوا بالمسكينة.. بل وانهال عليها أشد الأقرباء ضرباً وتعنيفاً.
- وصل بكِ الكفر للسحر؟؟
- سحر؟؟ ... أنا؟؟ ... من الكذاب الـ...
لم يتركوها تكمل كلمتها، بل جاء الكذاب الذي اتهمته بالكذب ليدرأ الشبهة عنه..
حاول إخراج الورقة المدفونة بسطح المقبرة فإذا بعقرب تلدغه نظير سوء ظنه..
حاولوا إسعافه بتفصيد يده بموسي حلاقة وهو في ذات المكان...
أخرجتها هي.. حينئذ قال لهم بصوت المفتخر: ها هو العمل.. وتقول إني كذاب؟؟
هم الجمع بالانصراف فصاحت بهم طالبة منهم قراءة ما بالورقة..
قرأ الجمع برقيتها ذات الأنين، واقترح أحدهم إيداعها بمصحة نفسية؛ رفضوا مقترحه خشية أن يعيرهم أحد بها.. قيدوها بالأغلال وحبسوها في حجرتها نظير جنونها المزعوم؛ لكنها وجدت في ذلك القيد متنفساً للحرية من قيود هي أشد قسوة.