القناع



رمى نفسه تحت القنطرة المحاذية إلى سلالم قلب المدينة وهو يناجي الله أن يخفف عنه ألم الهجران بعد نكران الجميل لأناس ظلوا يعتبرونه إلى وقت غير قصير الأخ والأب والصديق ، حاول هاني الدخول عبر النفق المؤدي إلى محطة الميترو لكنه تفاجأ بضيق المكان فعلق هناك إلى الصباح .إنه يحاول التنفس لكنه يجد صعوبة كبيرة وكأن عارضا قد سد قصباته الهوائية.حاول الخروج من البوابة التي صارت دوامة في كيانه لكنه لم يستطع فأدرك أن الأمر جلل وأنه يجب أن يراجع نفسه إن أراد التقدم أكثر ويعيد ترتيب حساباته مع الجميع.
بات هاني طيلة تلك الليلة الباردة يعانق ركبتيه تحت السلالم المؤدية إلى الطربق السريع المحاذي لمحطة المينرو خائفا من مطاردات الشرطة له ككل ليلة من ليالي الحجر الصحي المفروض في كامل البلاد ، بعد أن رفض الإنصياع إلى أوامر الدولة وقبلها إلى إرشادات الآباء فكان عاقا بإمتياز بل إن عقله أصبح مهيئا للمطاردة كل ليلة وكأنه يحضر لمنافسات عالية الطاقة ولو أن الرياضي النبيل لايحتاج إلى هكذا تدريبات تخل بأخلاقه.
خرج هاني كعادته من منزل أبيه نحو الشارع حيث الحياة الأخرى ، حياة غائبة عن الحياة الحقيقية تفاصيلها ابتعاد بالروح عن الواقع ونميمة وأرجاس من عمل الشيطان ، لم يزل رأسه بين فخذيه يفكر وألم البرد يضرب في عقب رأسه ختى النخاع حيث مركز السيالة العصبية الهائجة كل ليلة بفعل مثيرات من المحظورات العالمية الخطيرة.
يقول هاني في نفسه: لماذا أنا هنا ؟ لماذا لم أبق في المنزل مع الوالدين والإخوان حيث دفء الأسرة ودفء الفراش ودفء الحياة .لماذا أواجه هكذا مواقف بعد أن كنت أهنأ براحة بال كبيرة ؟ماذا فعلت حتى أدفع هذا الثمن ؟لماذا تطاردني فرق الأمن ؟ هل هل فعلت مكروها أم أنهم يفتشون عن أحد آخر أم هي غريزة الهروب من رجال الأمن في الحجر ؟!تساؤلات وحيرة.
سمع مرة أخرى صوت الكلاب البوليسية وهي تلهث وتزمجر وسلاسلها أحدثت صخبا كبيرا وضجة لانظير لها وبدأت بالنباح والنباح والصوت يعلو وقعقة الأقدام تدنو شيئا فشيئا ، ارتعب هاني وأحس بشلل في أعضائه كاملة وأصابه ذهول كبير ، أصبحت من خلاله أبصاره شاخصة إلى عنان السماء وكأنه يودع هذه الحياة وصور كثيرة تراءت له في تلك اللحظة حيث كان عتاب الوالدةوردع الوالد ونصيحة الجلساء الصالحين محسن ورامي وهادي ...لم يتوان عقله عن التفكير ولو للحظة واحدة في كل النصائح بترك مجالس القمار والمخدرات تحت القنطرة ، تذكر رأي الأطباء بضرورة التباعد وارتداء الأقنعة الواقية.
هدأ قليلا ثم تدحرج إلى أسفل الوادي بين أحراش وحشائش والسعال يأخذ بأنفاسه...وهو على تلك الحالة إذ به يسمع صوتا يقترب ويقول : إنه من هناك وراء تلك الصخرة ورأى في انعكاس الظل إشارة باليدين على أنه وراء الصخرة .حينها استسلم للأمر الواقع و أغمي عليه ولم يفق إلا في المستشفى .
استيقظ هاني لكنه هذه المرة كان محاصرا بحراس آخرين ومكبلا بقيود من نوع آخر ، ورجال محيطين به وكأنهم رجال فضاء هنا عاد إلى وعيه وأدرك أنه في جناح مرضى الفيروس الذي هتك بالعالم ،وأن أولئك هم أطباء وممرضون وأنه مربوط بجهاز تنفس اصطناعي .
استيقظ هاني بصعوبة كبيرة حيث ثقل الدواء أصاب عينيه وأطراف جسمه ، لكنه سمع بسهولة ماقاله رجل بذلك اللباس الخاص إلى آخر يحمل سماعة : يجب أن ينقل إلى السجن بسرعة هذا مجرم خطير على المجتمع. حينها أدرك هاني حجم المصيبة التي وقع فيها وبدأت أنفاسه تتقطع شيئا فشيئا حتى انقطعت تماما رغم كل المحاولات.

لقد قتل نفسه وقتل كمال هكذا قال ضابط الشرطة وهو يضرب كفيه ببعضهما ويردد لاحول ولاقوة إلا بالله وسبحان الله وإنا لله وإنا إليه راجعون.
هاني لم يكن يدري حين كان يطرح تلك الأسئلة تحت السلالم بأنه ارتكب جريمتين جريمة في حق نفسه وجريمة في حق صديقة كمال الذي كان يتسامر معه ومع شلة تنبعث منها رائحة خبيثة خبث الأفعال التي كانوا يقومون بها كل ليلة إلى الفجر فتحول ليلهم إلى نهار ونهارهم إلى ليل .
هاني لم يكن يدري أنه لم يلبس القناع الواقي ولكنه لبس قناعا أغشى عقله قبل عينيه ، قناع الجهل والمكر والغل واللامبالاة والهروب من الواقع.
قناع الذل لوالديه من نظرة الناس وحرمانهم من نعيم الأولاد ، وانتكاستهم من التربية السيئة.
القناع الذي أطفأ نور قلبه وجعله يغرز سكينا في قلب أعز أصدقائه بسبب دينارات خسرها في القمار فجعله يتساءل لماذا أخسر لماذا يربحني لماذا لم أنته منه منذ زمان ومفعول المخذر كان قد فعل فعلته .
بقت لهاني خمسمائة دينار الأخيرة التي تحصل عليها عندما باع الحذاء الرياضي الخاص بجاره أين سرقه منه ليلة البارحة ، فكان يخير نفسه إما أن يشتري بها كمية من القنب تكفيه ليومين أو ثلاثة أو يغامر بها كالعادة فيخسر ويعود إلى البيت منكسرا متحسرا.
لكنه هذه المرة استجمع كل قواه ولبس قناعا غليظا من المحرمات وقرر خوض غمار المنافسة فلعب بها كاملة من أجل خمسة آلاف أخرى .
بدأ اللعب ورائحة القنب الهندي ترتفع فأذهبت عقل المكان فصار موحشا مليئا بعلامات الشر وكانت النفوس مغتاظة حاقدة على بعضها البعض والنظرات الحاسدة والحاقدة تتطاير من عيونهم وبعد زمن يسير انكشفت كل الأوراق وحصد هاني روح كمال قبل أن يحصد كمال كل الأموال فأرداه قتيلا حسب تصريحات الشهود الذين ألقي عليهم القبض تلك الليلة .بعد أن عثر على الجثة مرمية بجانب الطريق حيث سار كمال بدمائه إلى أن انبطح على الحافة .
عندما يترك الإنسان قناع الوقار والعقل الرصين ويلبس قناع البغض والكره والشر ستنقلب أفعاله إلى أفعال شيطانية وتكون نهايته مأساوية.
| حميد إسماعيل من الجزائر، حاصل على شهادة تقديرية لمشاركته الوازنة في فعاليات مسابقات مجلة شغف، صنف : القصة القصيرة.

تعليقات