شعرية الإيقاع في قصيدة جرس لسماوات تحت الماء لعثمان لوصيف

  

 شعرية الإيقاع في قصيدة "جرس لسماوات تحت الماء" -دراسة في البحر الشّعري-  لعثمان لوصيف :

بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين و صفوة الخلق أجمعين أما بعد.

تعد الشعرية مصطلحا قديما حديثا ،عَرف العرب معالمه و تعاملوا معها و جسّدوها في حياتهم، ليأتي لنا كعلم حديثا أخذه الغرب وسيّروه آلية نقدية لفرز جماليات النص الأدبي، بل كشف العلاقات المتعددة التي ينسج بها، فهي تنفتح على ما يجعل من رسالة لفظية أثرا فنيّا.
ومن ثم عمل كثير من الباحثين على ربطها بعدّة قوالب منها الإيقاع الذي يعدّ أصلا في بناء المتن الشعري، على اعتبار أنه ذلك التواتر بين الحركة والسكون، تتدفق من خلاله المتتاليات التي يصنفها و يولّدها لذا جاء المقال حول شعرية الإيقاع في قصيدة ”جرس لسماوات تحت الماء“ لعثمان لوصيف ،هذا الشاعر صاحب الملمح الصوفي الطاغي ، والكلمة المتماهية مع الفيوضات الرّوحانية التي شدّتنا لتتبع إيقاعها و موسيقاها و للانتشاء بنغمها ،و الوقوف على جمالية الصوت والدلالة ومدى انسجامها مع السّياق النفسي للشاعر .
فما هي هذه العناصر التي تولّد منها الإيقاع وصنع بذلك خصوصية القصيدة و تفرّدها ؟ و كيف نقف على الجماليات الصوتية والموسيقية التي صنع بها شعرية القصيدة ؟و إلى آي مدى وفّق الشاعر في تخيّر إيقاع القصيدة بما يتناسب مع حالته الشعورية .

  • الشعرية :

تعد الشعرية إحدى النظريات النقدية الحديثة،فهي موضوع قديم من حيث نشأته ، حديثا من حيث الالتفاف حوله كتطبيق و منهج على النصوص، فقد وجدناه عند أرسطو بدءا في كتابه (فن الشعر) الذي انفتح من خلاله على جوهر الصناعة الشعرية.
ومن ثم يمكن القول أن الشعرية في أبسط تفكيك لمفهومها تبحث عن تلك القوانين والإجراءات التي تتحكم في النص الإبداعي (الخطاب الأدبي عموما)، بل محاولة وضع نظرية عامة للأدب بوصفه فنا لفظيا، فهي تعمل على الجمع بين البعد الدلالي و التركيبي و كذا التجريدي لتستخلص قوانين نستقرى من خلالها الأدب يذهب تودوروف في كتابه (الشعرية) إلى أنها:
لا تهتم بالعمل الأدبي بل ما تستنبطه من هذا الخطاب الأدبي"، فنجده يؤكد على أن وجود هذا العلم من أجل معرفة القوانين العامة التي تؤدي إلى خروج عمل ما، فهي "مقاربة للأدب مجردة و باطنية في الوقت نفسه".
ونجد فاليري يذهب إلى أن الشعرية :”اسم لكل ما له صلة بإبداع كتب أو تأليفها“ ، وكأننا نستشف من تحديده أن جوهر العمل هو اللغة التي تعدّ الأساس في رسم خريطة الإبداع لذلك المعنى الضيّق الذي يطرح مجرد مبادئ جمالية متّصلة بالشعر؛بمعنى أن الشعرية متعلقة بالأدب ككل بشقيه، بل إننا نجد كمال أبوديب في كتابه (في الشعرية) يخرج إلى خاصية الشعرية التي تنتُج فعلا خلال ذلك التناسج بين مكونات النص التي تكون بينها علاقات ضمن فاعلية معينة، هذه الأخيرة تطرح مساحة معينة تكون مؤشرا لوجود ما نسميه بالشعرية،بل إنها تتجاوز البناء داخل النص إلى سبر ما هو خفي و ضمني، ولذلك فإن كثيرا من الخصائص الشعرية لا يقتصر انتماءها على علم اللغة، و إنما إلى مجمل نظرية الإشارات أي علم السيميولوجيا العام.
ومن ثم فإن الحديث عن الشعرية يطول سرده ، و الغوص في بنياتها و العيش مع جمالياتها داخل النصوص يحتاج منا وقتا أطول، لذا هذه لمحة سريعة عن الشعرية التي دلّت تصوّراتها النظرية و الإجرائية على صلاحيتها منهجا ثريّا يجعلنا نتعامل بأناقة قلم مع النصوص بل استقرائها إذ أنها تحمل بين سطورها الكثير.

  • الإيقاع :

يعتبر الإيقاع من أهم مكونات القصيدة فهو ذلك التَّكرار للنبضة أو النبرة،و تدفّق الكلمات المنتظم في الشعر، يتحقق باجتماع النبر مع عدد المقاطع أو بانتظام طروء الحركة و السكون، فهو حسن الوقع على الأذن تستلطفه و تقبله .
و لهذا فإن الإيقاع بمعناه اللغوي " من اللحن و هو أن يوقع الألحان و يبينها"،الوقع و الوقيع : الأثر الذي يخالفه اللون ،و الميقع و الميقعة: كلاهما المطرقة ”، وهنا نلحظ أن ابن منظور ذهب إلى أن الإيقاع هو بيان اللحن أي الوزن الذي له تُطرب الأذان.
كما نجد ابن فارس يقول: أن "أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض و صناعة الإيقاع”
أما إذا بحثنا في المصطلح حديثا وجدناه "إنجليزي حيث انشق من اليونانية وهي بمعنى الجريان و التدفق،ليتطور و يصبح مرادفا للكلمة الفرنسية Measure التي تعبر عن المسافة الجمالية” .
ومن ثم فإننا نلحظ أن مفهوم مصطلح الإيقاع يدل على تواتر بين صمت و صوت، سكون و حركة، قصر و طول، إبطاء و إسراع، فهو يتولد نتيجة تلك الكيمياء القائمة بين بنية النص ككل أو بنية وحداته داخليا
وبذلك فإن للإيقاع دور بل علاقة تناسجية مع الدلالة بدءا من اللفظ إلى التركيب مرورا بالجانب الصوتي، فهو وسيلة لزيادة إيحائية المعنى و دلالته، ساعده على ذلك خصائصه المتنوعة فهو متغير و كيفي ؛ بمعنى أنه يأخذ نسيجا مختلفا و متعددا، لذا نجد الإيقاع أحد المظاهر التي ينطوي فيها الوزن .
فهو ذلك القالب الذي يستوعب أبعادا متنوعة ،" يتولد عن رجوع ظاهرة صوتية أو ترددها على مسافات زمنية متساوية أو متناوبة”.
فهو فعلا "فاعلية تنتقل إلى المتلقي ذي الحساسية المرهفة الشعور، بوجود حركة داخلية ذات حيوية متنامية تمنح التتابع الحركي وحدة نغمية عميقة عن طريق إضفاء خصائص معينة على الكتلة الحركية”.

  • ربط الإيقاع قديما بالزمن ؛ أي أنه كان التركيز عليه من جهة التوالي الزمني لتلك الحركة أساسا للموسيقا و لم يلحظ في الشعر إلا من خلال الوزن الذي له دور في تناسب الزمن(تناسب الحركة والسكون).

ومن هنا فإن للإيقاع أهمية خاصة داخل المتن الشعري حيث يعطي الخصوصية من صوت قلم لأخر بل يعطي له نسيجا بتشابكات متميزة،يمنح للقارئ مساحة يجول فيها كما يشاء ، يدخل الأذان و يطربها بتعدد الطرقات و كيفية استقبالها.
فهو التّلوين الصّوتي الصّادر عن الألفاظ المستعملة ذاتها ، فهو يصدر عن النّص من الدّاخل لا خراجه.ومن ثم فالإيقاع لحن حياة النص و به يولد المعنى المتناسج المنسجم، منه يُخلق جمال الإبداع و إليه ترجع حرية صوت الكلمات،فالقصيدة بلا إيقاع بتراء عمياء، تمشي على استحياء،تهاب الوقوع في غياهب التناقضات، ومن هنا نقول أن الإيقاع – سواء كان خارجيا أم داخليا – ضروري لنجاح صوت المتن الشعري ووصوله إلى أذان القلوب.

- قصيدة جرس لسماوات تحت الماء :

تعد هذه القصيدة أول ما افتتح به الشاعر ديوانه الموسوم"جرس لسماوات تحت الماء متبوعة ب يا هذه الأنثى " من إصدارات منشورات البيت 2008.
وتعد من أطول قصائد الديوان و عليه يمكن أن نعتبرها ما اصطلح عليه بالقصيدة الديوان ،حيث امتدت على طول 72صفحة من الحجم المتوسط وهي مقسمة إلى 21مقطع شعري ،كل مقطع منها يقارب أو يفوق 32سطر شعري
و هذا الديوان ذو صبغة صوفية ساحرة حيث يدخلنا الشاعر إلى عوالمه الشعرية المتماهية مع الحالة الصوفية و الرّوحية .
ركبت هذه القصيدة بحر الكامل الذي يعد من أكثر البحور الشعرية شيوعا لدى الشعراء الجزائريين ، لما فيه من مساحة إيقاعية و موسيقية تتيح للشاعر إطلاق مشاعره دون قيد، و يقول أ. ناصر لوحيشي في هذا الصدد :"تصطبغ القصيدة الكاملية نتيجة تواتر بعض التغيرات التي تطرأ على الأركان أوالأجزاء ، و أهمها وأعلاها الإضمار حيث يخرج النص من دائرة الرتابة و النمطية إلى مجال التدفق و الخفة ، فهو مستويات تنغيمية عديدة ويسع انفعالات الشاعر".
بالإضافة إلى الكامل نجد بحر الرجز الذي تتوالى فيه الحركة و السكون ،لذا سميّت القصيدة قديما أرجوزة، نلحظ أن مستعمله يعتمد عبارات قصيرة تتناسب و تفعيلاته التي فيها الحركة و السكون بشكل تكاملي، و نجد لوصيف قد امتطى هذا البحر ليقفز من خلاله بالوزن و الإيقاع قفزات روحانية ينتشي من خلالها ذلك التجلي الصوفي بخيوط من الضياء الذي يضعه من خلال هذا البحر الذي استعمله في أكثره مجزوءا في مسلك الشعارية و الإبداعية .

- بنية الإيقاع في قصيدة جرس لسموات تحت الماء :

من الزحافات التي تدخل بحر الكامل الإضمار و تسكين الثاني المتحرك
وبذلك تصبح التفعيلة متكونة من سببين خفيفين /0/0 ووتد مجموع //0
متْفاعلن،و كثير في القصيدة التي بين يدينا و يشيع في مجمل اشطرها تقريبا مثال :
و يضيع في أحداقها الخضراء
///0//0 /0/0//0 /0/0/
متَفاعلن/ متْفاعلن / متْفاع
ياليت الطفولة سحرها لا يذهب
/0 /0/0//0 /0/0//0 /0/0//0
لن/متْفاعلن / متْفاعلن/ متْفاعلن

و قد أسهم دخول هذا الزحاف على تفعيلات القصيدة في خفة و رشاقة إيقاعها التي قد يثقلها تواتر سبب ثقيل مع سبب خفيف // /0 في التفعيلة الواحدة ، و يسمح هذا النظام المتوازن بين الحركات و السواكن للشاعر أن يفيض معانيه الوجدانية و الذاتية بكل راحة وطلاقة .
و يدخل أيضا من الزحافات على البحر الكامل الطي و هو حذف الرابع الساكن /////0 متفعلن وهو نادر في شعر العرب ، لكننا نجده في هذه القصيدة فْي عدة اشطر و إن كان حضوره فيها اقل من الإضمار و كثيرا ما يجتمع الاثنان معا مثال ذلك :

هل كنت في رحم السدائم
/0/0//0///0/0/0//
متْفاعلن/ متَفاعل /متْفع
ثم إذا حنت إليك الأرض بعد سقوطها
/0///0/0/0//0/0/0//0///0//0
لن/متفاعل/متْفعل/متْفاعلن/متفاعلن
ومن العلل التي تدخل بحر الكامل نجد الحذذ في علل النقص ، وهو حذف الوتد المجموع من أخر الجزء :
متفاعلن–مُتَفَا-وتنقل الى فعلن
///0//0///0
كما نجد بحر الرجز يزحفاته و علله، ومن العلل التي تدخله القطع و هو حذف ساكن الوتد المجموع و تسكين ما قبله ، ومن الزحافات الخبن و هو حذف الثاني الساكن و الطي وهو حذف الرابع الساكن ، و الخبل و هو اجتماع الخبن و الطي ، و قد تحقق هذا في المثال التالي:
و يبرعم الخشب الموات
///0//0///0//0/
متفاعلن متفاعلن م
و تحلق الأجراس في ألحانه
///0 / / 0/ 0 /0/ 0/0 /0/0/0
تعلن متفْعلن مستفعلْ مسْتعلن
متعلن دخلها الخبل
متْفعلن دخلها الخبن
مستفعلْ دخلها القطع
مستعلن دخلها الطي
| بقلم : نهاد سعيداني، من الجزائر
تعليقات